كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابًا فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطىء إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إليّ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟ا فقلت: شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدًا، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد:
تنصرت بعد الحق عارًا للطمة ** ولم يك فيها لو صبرت لها

ضرر فأدركني منها لجاج حمية ** فبعت لها العين الصحيحة بالعور

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ** صبرت على القول الذي قاله عمر

هذا واعترض القول بأن هذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها بأن {مِنْ} شرطية، والشرط لا يقتضي الوقوع إذ أصله أن يستعمل في الأمور المفروضة، وأجيب بأن الشرط قد يستعمل في الأمور المحققة تنبيهًا على أنها لا يليق وقوعها بل كان ينبغي أن تدرج في الفرضيات وهو كثير، وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه الآية أن المراد هذا، وقرأ نافع وابن عامر ومن يرتدد بفك الإدغام وهو الأصل لسكون ثاني المثلين وهو كذلك في بعض مصاحف الإمام.
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِى الله} جواب {مِنْ} الشرطية الواقعة مبتدأ، واختلف في خبرها فقيل: مجموع الشرط والجزاء، وقيل: الجزاء فقط فعلى الأول: لا يحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه، وعلى الثاني: يحتاج إليه وهو هنا مقدر أي فسوف يأتي الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذي أراده {وَيُحِبُّونَهُ} أي يميلون إليه جل شأنه ميلًا صادقًا فيطيعونه في امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وهو معطوف على {يحبونه}، وجوز أن يكون حالًا من الضمير المنصوب فيه أي وهم يحبونه، وفي الكشاف محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئًا، وهم «الفرقة المفتعلة المنفعلة» من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه السلام، (ثم) دك الطور فتعالى الله عنه علوًا كبيرًا، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة. انتهى كلامه.
وقد خلط فيه الغث بالسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش في المتصوفة ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ولا يعد في البهائم فضلًا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمى طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ثم ارتكابهم ما نقل عنهم بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا مما ينافي حال المسمين به حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض فلا تزر وازرة وزر أخرى.
وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير في «الانتصاف»: أنه لا شك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا؟ فالمحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك (بالحس) كلذة الذوق في المطعوم ولذة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك، وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برياسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضًا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، وليس معلوم أكمل ولا أجل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة بل واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله عز وجل بمعناها الحقيقي لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب» فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال والتزام الطاعات لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقًا، فهو المحبة البالغة المتأكدة، «والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب فيكفر من قال: أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلى الله عليه وسلم كما قاله بعض ساداتنا الحنفية في حيز المنع عندي»، والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقي ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو نحو ذلك، وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء.
قال حجة الإسلام الغزالي روّح الله تعالى روحه: والمحبون لله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] انتهى مع أدنى زيادة.
ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد، وأنت تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة، وقد قدمنا طرفًا من الكلام في هذا المقام فتذكر.
والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده.
والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري وهو من صميم اليمن وقال: هم قوم هذا، وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله تعالى عنهم الذين قاتلوا أهل الردة، وعن السدي أنهم الأنصار، وقيل: هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر، وقال الإمامية: هم علي كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه، ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة، وقيل: هم الفرس لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا وذووه، وتعقبه العراقي قائلًا: لم أقف على خبر فيه، وهو هنا وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمن ذكره هنا فقد وهم.
{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، وكان الظاهر أن يقال: أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال: تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدى بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدي بها، وقيل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم.
ولعل المراد بذلك أنه استعيرت على لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة، لكن في استفادة هذا من ذاك خفاء، وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو يعني أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع لا يخفى ما فيه، لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجهًا آخر لا تضمين فيه، وكون الجار على ذلك متعلقًا بمحذوف وقع صفة أخرى لقوم ومع علو طبقتهم الخ تفسير لقوله سبحانه: {عَلَى المؤمنين} وخافضون الخ تفسير لأذلة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: عديت الذلة بعلى لأن العزة في قوله تعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} عديت بها كما يقتضيه استعمالها، وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة، وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير، وقيل: لأن العزة تتعدى بعلى والذلة ضدها، فعوملت معاملتها لأن النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن جني وغيره، وجر أذلة وأعزة على أنهما صفتان لقوم كالجملة السابقة، وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما، وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة، وقد جاء ذلك في غير ما آية، ومن لم يجوزه جعل الجملة هنا معترضة ولا يخفى أنه تكلف، ومعنى كونهم أعزة على الكافرين أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه، ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جىء به للتكميل لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به على حد قوله:
جلوس في مجالسهم رزان ** وإن ضيف ألمّ فهم خفوف

وقرئ أذلة وأعزة بالنصب على الحالية من قوم لتخصيصه بالصفة.
{يجاهدون في سَبِيلِ الله} بالقتال لإعلاء كلمته سبحانه وإعزاز دينه جل شأنه، وهو صفة أخرى لقوم مترتبة على ما قبلها مبينة مع ما بعدها لكيفية عزتهم، وجوز أبو البقاء أن يكون حالًا من الضمير في {أَعِزَّةَ} أي يعزون مجاهدين، وأن يكون مستأنفًا.
{وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} فيما يأتون من الجهاد أو في كل ما يأتون ويذرون، وهو عطف على {يجاهدون} بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة والتصلب في الدين، وفيه تعريض بالمنافقين، وجوز أن يكون حالًا من فاعل {يجاهدون} أي يجاهدون وحالهم غير حال المنافقين، والتعريض فيه حينئذٍ أظهر، وقيل: إنه على الأول لا تعريض فيه بل هو تتميم لمعنى {يجاهدون} مفيد للمبالغة والاستيعاب وليس بشيء، واعترض القول بالحالية بأنهم نصوا على أن المضارع المنفي بلا أو ما كالمثبت في عدم جواز دخول الواو عليه، وأجيب بأن ذلك مبني على مذهب الزمخشري القائل بجواز اقتران المضارع المنفي بلا، وما بالواو، فإن النحاة جوزوه في المنفي بلم، ولما ولا فرق بينهما، واللومة المرة من اللوم أي الاعتراض وهو مضاف لفاعله، وأصل لائم لاوم فاعل كقائم، وفي اللومة مع تنكير لائم مبالغتان على ما قيل، ووجه ذلك العلامة الطيبي بأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة في سياق النفي تعم، ثم إذا انضم إليها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوّام، فيكون هذا تتميمًا في تتميم أي لا يخافون شيئًا من اللوم من أحد من اللوّام.
وقيل عليه: بأنه كيف يكون لومة أبلغ من لوم مع ما فيها من معنى الوحدة، فلو قيل: لوم لائم كان أبلغ وأجيب بأنها في الأصل للمرة لكن المراد بها هنا الجنس، وأتى بالتاء للإشارة إلى أن جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة، وتعقب بأنه لا يدفع السؤال لأنه لا قرينة على هذا التجوز مع بقاء الإبهام فيه، وقد يقال: إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك.
{ذلك} إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف لا بعضها كما قيل، والإفراد لما تقدم، وكذاك ما فيه من معنى البعد {فَضَّلَ الله} أي لطفه وإحسانه {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} إيتاءه إياه لا أنهم مستقلون في الاتصاف به {والله واسع} كثير الفضل، أو جواد لا يخاف نفاد ما عنده سبحانه: {عَلِيمٌ} مبالغ في تعلق العلم في جميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل الفضل ومحله، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية كما مر غير مرة. اهـ.